عبد الله يبحث …عن ذاته و يقول :ترى من أكون أنا؟!
بين الواقع والذاكرة :
في البر سافر وفي البحر مشى على الماء وفي الصحراء سبح. استعار من النسر جناحيه وطار مع العاصفة يسابق الريح. إلى الماضي رحل عبد الله، ولكن المستقبل رده إلى ذاته، إلى تاريخه حيث استهلكوا عمره، هو وأبوه وأمه، اجتاز عبد الله المسافات وهو لا يدري ما إذا كان يتأخر أم يتقدم. في عالم محدود بحدود أنفاسه وأحلامه. م********ين عبد الله. لن يهدأ يوما ولا عرف الراحة، وهو يسأل ولا يعثر على جواب: كيف يمكن للإنسان أن يوجد حقاً؟
فمن هو عبد الله ؟
في ذاكرته سافر عبد الله وفي الحلم، تجاوز يوما ذاكرته وأحلامه حيث تمنياته، تطلعاته، أحاسيسه ،صوره، إشراقا ته، ذاته، رؤاه … وعالمه كله؟ وفيهما أيضا عذابه، مرضه، بؤسه، سجنه … وموته. في ذاكرته عاش أبوه، فيها وجد ومات. وكل ما يعرفه عنه عبد الله هو أنه قضى حياته بعيد إلها هو قي حقيقته صنم هش رآه يتداعى وهو يموت … وفي ذاكرته التقى عبد الله أمه: قضت حياتها تسقي كرمة لم تثمر … وفي ذاكرة عبد الله طيف امرأة: أهي زوجته، عشيقته، صبية رآها أو تخيلها ..؟ لا يدري ما إذا كانت من الأثير أم من لحم ودم؟ ما إذا كانت صلته بها قد تحققت فعلا أم أنه حول أحساسيه إلى وقائع؟ ويتعب التفكير عبد الله فيقول: عالم عقيم.. ولم يدري من العقيم، أهو أم العالم؟ .. وهذا الكون؟ انه بين يديه، يجتاز مسافات، بلمحة عين يحيط به، يلحق فوقه، يدوسه بأقدامه، يزرعه ويحصد الزرع، ولكن عبثا يحاول الدخول إليه: انه مغلق في وجهه. عبثا يناديه ********انه، أصموا آذانهم فلا يسمعون .
يوما فقد عبد الله ذاكرته، نسي اسمه، أضاع وجوده وهويته، سقطت من ذاكرته المواصفات التي تميزه عن غيره. فلم يعرف أهله ولم يعرفوه، يومها ذكر تاريخه: انه بدوي جاب الأفاق سيرا على الأقدام. تعلم الشعر والقرآن … وأيضا الحب علم العالم هذه الفنون بنى حضارات وأبدع ثقافات. في القدس اسمه عيسى، وفي مكة اسمه أحمد … وماذا بقي لـه من هذا التاريخ الطويل؟ حروب الردة وحروب الروم، جرح في فلسطين والفرص الضائعة … ومجموعة أحاسيس لم ترتو، حاجات لم تتحقق، وفي تلك الأيام السعيدة والبعيدة كان عبد الله موجدا. أما اليوم فهو وعالمه في درجة الصفر حيث يتوارى الدليل ومع تواريه هو ستختلط البدايات بالنهايات، يختفي النور وتغمر الظلمة العالم عبد الله يلملم عالمه، ينكفئ عن ذاته عسى يعرف اسمه فيحفره على صخرة الموت …
فمن هو عبد الله؟
قال عبد الله يوما متسائلا أو يستطيع المرء أن يعيش بدون خوف؟ لا، أبدا فالخوف بعد من أبعاد وجوده، ووجد عبد الله مذعورا، يهرب من ذاته إلى ذاته، إنه مطارد: الأشياء ترفضه والبشر يلاحقونه، فيعود إلى ذاته، ويسأل: متى بدأ الخوف؟ كيف بدأ؟ متى ينتهي؟ سألوه يوماً: علام أنت خائف؟ فحار في أمره…
هو عصر الرعب، قال عبد الله، وفي عصر الرعب يتجنب الإنسان الناس ،
فقد يكون أحدهم رقيباً عليك، ويتجنب الأشياء، فقد تكون فخا نصبوه لك ن في عصر الرعب يقاضيك الحراس الحساب، إذا أكلت وإذا لم تأكل، إذا ضحكت وإذا قضبت حاجبيك فلنهرب من عصر الرعب، قال عبد الله، ضم عبد الله عشيقته، وإلى الأمام حث الخطى، توارى من عالمه: الوراء، واليمين، واليسار، فقد يراه الرقيب إذا التفت، وكان يسأل في كل لحظة ملهوفا إذا كان الرعب قد انتهى، فيشيح الناس عنه وعن عشيقته بأنظارهم، لكأن السؤال من المحرمات. وينهك عبد الله وعشيقته الجوع وما يبرح يسأل: إلى أين يلجأ الإنسان في عصر الرعب .
فمن هو عبد الله؟
أهو أنا؟ أنت؟ هذا؟ ذاك؟ فلان من الناس أم غيره؟ أهو موجود أم وجد أم سيوجد؟ أيمكن أن يوجد؟ من أين يستمد قدرته على الاستمرار في الوجود؟ من
الملاحظ أن الاسم بدأ يشيع بين الأدباء، أيدل الاسم على نموذج فني جديد؟ إلى أي فئة، طبقة، جماعة ينتمي هذا النموذج؟ أهو مرتبط بمكان وبمرحلة تاريخية معينة أم يمكن أن يوجد في أي زمان أو مكان كان من العالم؟
أيكون عبد الله ذلك الذي أحتضنه صاحبه في خياله وقلبه، حتى إذا ما نما واكتمل نقله إلى الورق، حرره ليعيش بين الناس، ربما بمعنى ما نعم، فمن غير الممكن أن يتقمص مؤلف أحد الشخصيات، يعيش معها فترة من الزمن، دون أن يمنحها بعضا من سماته، علائقه بأهله مواقفه من الناس، أحكامه، ذوقه … إلا أن صاحب عبد الله رأى يوما أن صنيعه صار لـه كيان ما فلم لا يقول لـه: اسمك غير اسمي، حياتك غير حياتي، وسيكون مصيرك غير مصيري … فامض في سبيلك، عش حياتك الخاصة، أنت غيري، أفهمت؟ في الغير بعض من الذات بدون شك، وبينهما أيضا مسافة قد تكون كبيرة، وهي التي تمكن كلا منهما أن يعيش حياته الخاصة، لن أراك بعد اليوم، لن أكون أسيرك يجب أن أنصرف لغيرك، في خيالي حيوات كثيرة هي التي تطردك، أفهمت.
- قد لا تراني مرة أخرى ولا أراك، قال عبد الله لصاحبه..
إذا حققت الهدف من وجودك فأخبرني. عندها ألقاك مرة أخرى … وسيكون لنا عندها حديث أخر.
- أنا صنيعك، يا رجل قل ما أنا عليه هو منك … ولك حياتي، مغامراتي، انفعالاتي … والطاقة التي أحيا بها، فكيف تريد مني أن أواجه الناس وحدي، والناس ذئاب على بعضهم، أفيرحمون كيان ضعيف مثلي؟
- ومع ذلك ستستمد حياتك المقبلة من هؤلاء الناس، فكل قارئ – وآمل أن يكون قرائي كثر – يمنحك معنى ما، وجودا ما، وقد يكتشف أحدهم فيك عنصرا لم ننتبه إليه، كل ذلك سيعطيك حياة غير التي منحتك إياها
كثيرون، يا أخي، يعيشون بغيرهم .
- أنا من عالم الحلم والذاكرة، وكل واقعة من وقائع الحياة أقوى أضعافا مضاعفة من أحلام الناس وذكرياتهم كلها…
- ستتأكد بالتجربة الواقعية جداً أن كثيرين، أفرادا وجماعات شعوبا وأمما يعيشون ذكريات الماضي وأحلام المستقبل ولها. وسوف تكون
أنت منهم. وقد يرون فيك صورتهم، كاريكاتور وجودهم فيرحبون بك ويمدون بعمرك .
- أنا خائف .
- هذا أيضاً شائع. والخوف على الأرجح من طبيعة الإنسان. وفي عالم مذعور كعالمنا يتكسر الخوف على الخوف، كن جريئا وتقدم. وعندما تتعرف إلى الناس سيرون فيك واحدا منهم، لا بل أنت واحدا أفضل منهم لأنك صريح لا تخفي حقيقتك. أما فهم فيكذبون على أنفسهم.
- قل لي: من أين أتيت بي، عسى أن أجد بين الناس بعضا من أقاربي ألجأ إليهم في المواقف الحرجة أو عندما اصطدم بمأزق.
- من عامة الناس أتيت بك وإليهم أعيدك. كلهم أقاربك وأقاربي. كلنا من هذا الزمن. وفي الزمن يلتقي الناس ويتعارفون أو يتباعدون. كان لك أقارب أقربون من ثلاثين وعشرين سنة. هل بقي بعض منهم حتى اليوم؟ لا أدري. عمليا أنت يتيم. ولكن قد تكون ذريتك كبيرة على الأرجح .
رحلة …… وحوار
و كان على عبد الله أن ينصاع لأمر صانعه …
سأل الناس عبد الله عندما رأوه: من هو؟ من أين أتى؟ ماذا يريد؟ …
- مخلوق هجين، قال أحدهم، ربما ولد غير شرعي .
- مشروع إنسان، قال غيره، أو صورة مشوهة للإنسان .
- هذه نماذج بشرية لا وجود لها عندنا. نحن نعرف ما نريد ولنا أهداف نموت من أجلها. أما هؤلاء فالوجود الإنساني عندهم لا معنى لـه لكأنه تورم في جنسهم السليم. نحن نرفض فلسفات البعث: إنها مؤامرة علينا وعلى الإنسان .
و يحار عبد الله في أمره، هو من هو، فما معنا هذه الأسئلة؟ انه يعيش حياته يوما إثر يوم وساعة بعد ساعة، لا يعنيه القبل ولا البعد، وذاكرته هي أيضا آنيه. ويظن عبد الله أنهم سيعدمونه أو سيطردونه، فيهرب إلى معلمه .
- رفض الناس، قالوا أنهم لم يروا لي شبيها بينهم .
- نحن، يا ابني، شعب ينكر، مع انه مسؤول أحد كبير عن اختيارها، نحن شعب يكذب على ذاته .
الواقع عنيد يا ابني، فبقاؤك بينهم سيرغمهم على تبنيك والاحتفال بك .
- لم أشعر بأني يتيم حقا إلا عندما التقيت اخوتي، أبناءك الآخر أو من صنعت من كائنات أدبية. فهؤلاء لم ينتبهوا لوجودي وأنا لم أتعرف إلى ذاتي في أي منهم .
-
التتمه غي الجزء الثاني