ويتناول الدكتور القرضاوي جانب العقيدة في حياة الندوي فيقول: آتاه الله قبل ذلك كله: العقيدة السليمة: عقيدة أهل السنة والجماعة، سليمة من الشركيات والقبوريات والأباطيل، التي انتشرت في الهند، وكان لها سوق نافقة، وجماعات مروجة تغدو بها وتروح، تأثروا بالهندوس ومعتقداتهم وأباطيلهم، كما هو الحال عند جماعة "البريليوين" الذين انتسبوا إلى التصوف اسمًا ورسمًا، والتصوف الحق براء منهم، وقد حفلت عقائدهم بالخرافات، وعباداتهم بالمبتدعات، وأفكارهم بالترهات، وأخلاقهم بالسلبيات.
ولكن الشيخ تربى على عقائد مدرسة "ديوبند" التي قام عليها منذ نشأتها علماء ربانيون، طاردوا الشرك بالتوحيد، والأباطيل بالحقائق، والبدع بالسنن، والسلبيات بالإيجابيات. وأكدت ذلك مدرسة الندوة - ندوة العلماء - وأضافت إليها روحًا جديدة، وسلفية حية حقيقية، لا سلفية شكلية جدلية، كالتي نراها عند بعض من ينسبون إلى السلف، ويكادون يحصرون السلفية في اللحية الطويلة، والثوب القصير، وشن الحرب على تأويل نصوص الصفات.
إن العقيدة السلفية عند الشيخ هي: توحيد خالص لله تعالى لا يشوبه شرك، ويقين عميق بالآخرة لا يعتريه شك، وإيمان جازم بالنبوة لا يداخله تردد ولا وهم، وثقة مطلقة القرآن والسنة، مصدرين للعقائد والشرائع والأخلاق والسلوك.
المشروع الفكري والدعوي للعلامة الندوي
يلخص العلامة القرضاوي أهم جوانب المشروع الفكري والدعوي للعلامة الندوي في ركائز وأسس تبلغ العشرين، منها انطلق، وإليها يستند، وعليها يعتمد، نجملها فيما يلي:
1ـ تعميق الإيمان في مواجهة المادية: تعميق الإيمان بالله تعالى، وتوحيده سبحانه ربا خالقًا، وإلهًا معبودًا واليقين بالآخرة، دارًا للجزاء، ثوابًا وعقابًا، في مواجهة المادية الطاغية، التي تجحد أن للكون إلهًا يدبره ويحكمه، وأن في الإنسان روحًا هي نفحة من الله، وأن وراء هذه الدنيا آخرة. المادية التي تقول: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع! ولا شيء بعد ذلك. أو كما حكى الله عنهم: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] وقد تخللت هذه الركيزة الفكرية المحورية معظم رسائله وكتبه؛ وخصوصًا: الصراع بين الإيمان والمادية.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكر الإسلامي والفكرة الغربية.
2- إعلاء الوحي على العقل: بمعنى اعتبار الوحي هو المصدر المعصوم، الذي تؤخذ منه حقائق الدين وأحكامه، من العقائد والشرائع والأخلاق، واعتبار نور النبوة فوق نور العقل، فلا أمان للعقل من العثار إذا سار في هذا الطريق وحده، ولا أمان للفلسفات المختلفة في الوصول إلى تصور صحيح عن الألوهية والكون والإنسان والحياة، حتى الفلسفة الدينية أو علم الكلام حين خاضا هذه اللجة غرقا فيها. وقصور العقل هنا شهد به بعض كبار المتكلمين كالفخر الرازي، والآمدي وغيرهما، وبعض كبار الفلاسفة، وأحدثهم (كانت) وكذلك فلسفات الإشراق لم تصل بالإنسان إلى بر الأمان، وقد بين ذلك الشيخ الندوي في عدد من كتبه، منها: النبوة والأنبياء في ضوء القرآن. ومنها: الدين والمدنية، وأصله محاضرة ألقاها في مقتبل الشباب (في الثلاثين من عمره)
3- توثيق الصلة بالقرآن الكريم باعتباره كتاب الخلود، ودستور الإسلام وعمدة الملة، وينبوع العقيدة، وأساس الشريعة،
وهو يوجب اتباع القواعد المقررة في تفسيره وعدم الإلحاد في آيه، وتأويلها وفق الأهواء والمذاهب المنحولة، ولهذا أنكر على القاديانيين هذا التحريف في فهم القرآن. ومن قرأ كتب الشيخ وجده عميق الصلة بكتاب الله، مستحضرًا لآياته في كل موقف محسنًا الاستشهاد بها غاية الإحسان، وله ذوق متفرد في فهم الآيات، كما أن له دراسات خاصة في ضوء القرآن مثل: تأملات في سورة الكهف -والتي تجلي الصراع بين المادية والإيمان بالغيب- والنبوة والأنبياء في ضوء القرآن.. ومدخل للدراسات القرآنية.. وغيرها من الكتب والرسائل، وقد عمل مدرسًا للقرآن وعلومه في دار العلوم بلكهنو عدة سنوات.
4-توثيق الصلة بالسنة والسيرة النبويةوذلك أن السنة مبينة القرآن وشارحته نظريًا، والسيرة هي التطبيق العملي للقرآن، وفيها يتجلى القرآن مجسدًا في بشر [كان خلقه القرآن] وتنجلي الأسوة الحسنة التي نصبها الله للناس عامة، وللمؤمنين خاصة، لهذا كان من المهم العيش في رحاب هذه السيرة، والاهتداء بهديها والتخلق بأخلاقها، لا مجرد الحديث عنها، باللسان أو بالقلم. وقد بين الشيخ أثر الحديث في الحياة الإسلامية، كما أبدع في كتابة السيرة للكبار وللأطفال، وهو هنا يجمع بين عقل الباحث المدقق، وقلب المحب العاشق، وهذا يكاد يكون مبثوثًا في عامة كتبه.
5- إشعال الجذوة الروحية (الربانية الإيجابية)إنه إشعال للجذوة الروحية في حنايا المسلم، وإعلاء "نفخة الروح" على قبضة الطين والحمأ المسنون في كيانه، وإبراز هذا الجانب الأساسي في الحياة الإسلامية التي سماها الشيخ "ربانية لا رهبانية" وهو عنوان لأحد كتبه الشهيرة، وقد سماه بهذا الاسم لسببين: أولهما: أن يتجنب اسم التصوف لما علق به من شوائب، وما ألصق به من زوائد، على مر العصور، وهذا من جناية المصطلحات على الحقائق والمضامين الصحيحة، وما التصوف في حقيقته إلا جانب التزكية التي هي إحدى شعب الرسالة المحمدية، أو جانب الإحسان الذي فسره الرسول في حديث جبريل الشهير. والسبب الثاني: إبراز العنصر الإيجابي في هذه الحياة الروحية المنشودة، فهي روحية اجتماعية، كما سماها أستاذنا البهي الخولي رحمه الله، وهي ربانية إيجابية تعمل للحياة ولا تعتزلها، ولا تعبدها، وتجعل منها مزرعة للحياة الأخرى: حياة الخلود والبقاء. كما وضح الشيخ الندوي الجانب التعبدي الشعائري في حياة المسلم في كتابه المعروف "الأركان الأربعة" وهو يمثل نظرة جديدة في عبادات الإسلام الكبرى: الصلاة والزكاة والصيام والحج، وآثارها في النفس والحياة.
6- البناء لا الهدم، والجمع لا التفريق فالشيخ الندوي رحمه الله جعل همه في البناء لا الهدم، والجمع لا التفريق وأنا أشبهه هنا بالإمام حسن البنا رحمه الله، الذي كان حريصًا على هذا الاتجاه الذي شعاره: نبني ولا نهدم، ونجمع ولا نفرق، ونُقرّب ولا نباعد، ولهذا تبنى قاعدة المنار الذهبية "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" وهذا هو توجه شيخنا الندوي فهو يبعد ما استطاع عن الأساليب الحادة، والعبارات الجارحة، والموضوعات المفرقة، ولا يقيم معارك حول المسائل الجزئية، والقضايا الخلافية. ولا يعني هذا أنه يداهن في دينه، أو يسكت عن باطل يراه أو خطأ جسيم يشاهده، بل هو ينطق بما يعتقده من حق، وينقد ما يراه من باطل أو خطأ، لكن بالتي هي أحسن، كما رأيناه في نقده للشيعة في مواقفهم من الصحابة في كتابه "صورتان متضادتان" وفي نقده للعلامة أبي الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب، فيما سماه "التفسير السياسي للإسلام" وإن كنت وددت لو اتخذ له عنوانًا غير هذا العنوان، الذي قد يستغله العلمانيون في وقوفهم ضد شمول الإسلام، وقد صارحت الشيخ بذلك ووافقني عليه رحمه الله.
7- إحياء روح الجهاد في سبيل الله وتعبئة قوى الأمة النفسية للدفاع عن ذاتيتها ووجودها، وإيقاد شعلة الحماسة للدين في صدور الأمة، التي حاولت القوى المعادية للإسلام إخمادها، ومقاومة روح البطالة والقعود، والوهن النفسي، الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت. وهذا واضح في كتابه "ماذا خسر العالم" وفي كتابه "إذا هبت ريح الإيمان" وفي حديثه الدافق المعبر عن الإمام أحمد بن عرفان الشهيد وجماعته ودعوته، وعن صلاح الدين الأيوبي وأمثاله من أبطال الإسلام. ومنذ رسائله الأولى وهو ينفخ في هذه الروح، ويهيب بالأمة أن تنتفض للذود عن حماها، وتقوم بواجب الجهاد بكل مراتبه ومستوياته حتى تكون كلمة الله هي العليا.
8- استيحاء التاريخ الإسلامي وبطولاته: والركيزة الثامنة: استيحاء التاريخ - ولا سيما تاريخنا الإسلامي- لاستنهاض الأمة من كبوتها، فالتاريخ هو ذاكرة الأمة، ومخزن عبرها، ومستودع بطولاتها. والشيخ يملك حسًا تاريخيًا فريدًا، ووعيًا نادرًا بأحداثه، والدروس المستفادة منها، كما تجلى ذلك في رسالته المبكرة "المد والجزر في تاريخ الإسلام" وفي كتابه: "ماذا خسر العالم" وفي غيره، والتاريخ عنده ليس هو تاريخ الملوك والأمراء وحدهم، بل تاريخ الشعوب والعلماء والمصلحين والربانيين. ليس هو التاريخ السياسي فقط، بل السياسي والاجتماعي والثقافي والإيماني والجهادي. ولهذا يستنطق التاريخ بمعناه الواسع، ولا يكتفي بمصادر التاريخ الرسمية، بل يضم إليها كتب الدين، والأدب، والطبقات المختلفة، وغيرها، ويستلهم مواقف الرجال الأفذاذ، وخصوصًا المجددين والمصلحين، كما في كتابه: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" الذي بين فيه أن الإصلاح والتجديد خلال تاريخ الأمة: حلقات متصلة، ينتهي دور ليبدأ دور، ويغيب كوكب ليطلع كوكب. والنقص ليس في التاريخ: إنما هو في منهج كتابته وتأليفه.
9- نقد الفكرة الغربية والحضارة المادية أوالجاهلية الحديثة، ورؤيته في هذا واضحة كل الوضوح لحقيقة الحضارة الغربية وخصائصها، واستمدادها من الحضارتين: الرومانية اليونانية، وما فيهما من غلبة الوثنية، والنزعة المادية الحسية والعصبية القومية، وهو واع تمامًا للصراع القائم بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية وخصوصًا في ميادين التعليم والتربية والثقافة والقيم والتقاليد. وقد أنكر الشيخ موقف الفريق المستسلم للغرب، المقلد له تقليدًا أعمى في الخير والشر، ومثله: موقف الفريق الرافض للغرب كله، المعتزل لحضارته بمادياتها ومعنوياتها.. ونوه الشيخ بموقف الفريق الثالث، الذي لا يعتبر الغرب خيرًا محضًا، ولا شرًا محضًا. فيأخذ من الغرب وسائله لا غاياته، وآلياته لا منهج حياته، فهو ينتخب من حضارته ما يلائم عقائده وقيمه، ويرفض ما لا يلائمه، واهتم الشيخ هنا بشعر د. إقبال باعتباره أبرز ثائر على الحضارة المادية، مع عمق دراسته لها، وتغلغله في أعماقها. وقد تجلى هذا في كثير من كتبه ورسائله، ولا سيما: حديث مع الغرب.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية. أحاديث صريحة في أمريكا.. محاضرة "الإسلام والغرب" في أوكسفورد.